الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام
.باب الهِبَة: الهبة:- بكسر الهاء وتخفيف الباء. وهى- شرعا- تمليك في الحياة بلا عوض. ولفظ الهبة يشمل أنواعا كثيرة:منها:- الهدية المطلقة، والإبراء من الدين، والصدقة، والعطية، وهبة الثواب. ولكنْ بينها فروق. فالهبة المطلقة:- ما قصد بها التودد إلى الموهوب له. والصدقة:- ما قصد بها محض ثواب الآخرة. والعطية:- هي الهبة في مرض الموت المخوف، وتشارك الوصية في أكثر أحكامها. وهبة الدين:- هي إبراء المدين من الدين. وهبة الثواب:- وهى ما قصد بها أخذ عوضها، وهى من أنواع البيع ولها أحكامه. ولكن إذا أطلقت الهبة، فالمراد بها الأولى من هذه الأنواع. ولها فوائد وحكم كثيرة، من إسداء المعروف، والتعاون، والتودد، وجلب المحبة، ففي الحديث: «تهادوا تحابوا» لاسيما إذا كانت على قريب، أو جار، أو من بينك وبينه عداوة. فهنا تحقق من المصالح والمنافع الشيء الكثير، وتكون من أنواع العبادات الجليلة التي أزالت ما في الصدور، ووثقت عرى القرابة والجوار. والشرع يهدف إلى كل ما فيه الخير والصلاح. الحديث الأول: عَنْ عُمَرَ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: حَمَلْت عَلَى فَرس فِي سَبيلِ الله، فَأضَاعَهُ الذي كان عِنْدَهُ، فَأرَدْتُ أن أشْتَريَهُ وَظَنَنتُ أنَهُ يَبيعُهُ بِرُخْص، فَسألتُ النَبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا تَشترِهِ ولا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ وَإن أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإنَ العَائِدَ في هِبَتِهِ كالعَائِدِ فِي قيئهِ». وفي لفظ: «فَإنَّ الذِي يَعُودُ فِي صَدَقتِهِ كالكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قيْئِهِ». الحديث الثاني: وَعَنِ ابْن عَباس رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «العائِدُ في هِبَتِهِ كالعَائِد فِي قيئهِ». المعنى الإجمالي: أعان عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا على الجهاد في سبيل الله. فأعطاه فرسا يغزو عليه، فقصر الرجل في نفقة ذلك الفرس، ولم يحسن القيام عليه، وأتعبه حتى هزل وضعف. فأراد عمر أن يشتريه منه وعلم أنه سيكون رخيصاً لهزاله وضعفه، فلم يقدم على شرائه حتى استشار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ففي نفسه من ذلك شيء لكونه من الملهَمين. فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائه ولو بأقل ثمن، لأن هذا شيء خرج لله تعالى فلا تتبعه نفسك ولا تعلق به، ولئلا يحابيك الموهوب له في ثمنه، فتكون راجعاً ببعض صدقتك. ولأن هذا خرج منك، وكفر ذنوبك، وأخرج منك الخبائث والفضلات، فلا ينبغي أن يعود إليك. ولهذا سمى شراءه عوداً في الصدقة. ثم ضرب مثلا للتنفير من العود في الصدقة بأبشع صورة وهى أن العائد فيها، كالكلب الذي يقىء ثم يعود إلى قيئه فيأكله مما يدل على بشاعة هذه الحال وخستها، ودناءة مرتكبها. ما يستفاد من الحديثين: 1- استحباب الإعانة على الجهاد في سبيل اللّه، وأن ذلك من أجل الصدقات، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم صدقة. 2- أن عمر تصدت على ذلك المجاهد بالفرس ولم يجعلها وقفا عليه، أو وقفا في سبيل الله على الجهاد، وإلا لما جاز للرجل بيعه. فالمراد حمل تمليك لا حمل توقيف. 3- النهى عن شراء الصدقة، لأنها خرجت لله، فلا ينبغي أن تتعلق بها النفس. وشراؤها دليل على تعلقه بها، ولئلا يحابيه البائع فيعود عليه شيء من صدقته. 4- يحرم العود في الصدقة، وهو مذهب جمهور العلماء. 5- التنفير من ذلك بهذا المثل الذي هو الغاية في البشاعة والدناءة. 6- استثنى جمهور العلماء من تحريم العودة في الهبة ما يهبه الوالد لولده، فإن له الرجوع في ذلك، عملا بما رواه أحمد وأصحاب السنن، عن ابن عمر، وابن عَباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل لرجل مسلم أن يعطى العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده» صححه الترمذي والحاكم. .باب العَدل بَيْن الأولاد في العطِية: الحديث الأول:عَن النَعْمَانِ بْنِ بَشِير قال: تَصَدق عَليَّ أبي بِبعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أمي عَمرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أرضى حَتًى يَشْهَدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم. فَانطَلَقَ أبى إلى رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صدَقَتي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أفَعَلْتَ هذا بوَلَدِك كُلهِمْ»؟ قال: لا. قَالَ: «اتقوا الله وَاعْدِلُوا بَينَ أولادكم». فَرَجَع أبي، فَرَدَّ تِلْكَ الصًدَقَةَ. وفي لفظ قال: «فَلا تُشْهِدْني إذاً، فإني لا أشْهَدُ عَلَى جَورٍ». وفي لفظ: «فَأشْهِد عَلَى هذَا غَيْرِي». المعنى الإجمالي: ذكر النعمان بن بشير الأنصاري: أن أباه خصه بصدقة من بعض ماله فأرادت أمه أن توثقها بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلبت من أبيه أن يشهد النبي صلى الله عليه وسلم عليها. فلما أتى به أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتحمل الشهادة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتصدقت مثل هذه الصدقة على ولدك كلهم؟ قال: لا. وبما أن تخصيص بعض الأولاد دون بعض، أو تفضيل بعضهم على بعض عمل مناف للتقوى وأنه من الجور والظلم، لما فيه من المفاسد، إذ يسبب قطيعة المفضل عليهم لأبيهم وابتعادهم عنه، ويسبب عداوتهم وبغضهم لإخوانهم المفضلين. لما كانت هذه بعض مفاسده قال النبي صلى الله عليه وسلم له: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ولا تشهدني على جور وظلم» ووبخه ونفَّره عن هذا الفعل بقوله: أشهد على هذا غيري. فما كان من بشير رضي الله عنه إلا أن رجع بتلك الصدقة كعادتهم في الوقوف عند حدود الله تعالى. اختلاف العلماء: أجمع العلماء على مشروعية التسوية بين الأولاد في الهبة، حتى كان السلف يسوون بينهم في القبل لما في ذلك من العدل وإشعارهم جميعاْ بالمودة، وتصفية قلوبهم وإبعاد البغض والحقد والحسد عنهم. ولكن اختلف العلماء في وجوب المساواة بينهم في الهبة. فذهب الإمام أحمد، والبخاري، وإسحاق، والثوري، وجماعة إلى وجوبها وتحريم التفضيل بينهم، أو تخصيص بعضهم دون بعض، أخذاً بظاهر الحديث. وذهب الجمهور إلى أنها مستحبة فقط، وأطالوا الاعتذار عن هذا الحديث بما لا مقنع فيه. والحق الذي لاشك فيه، وجوب المساواة، لظاهر الحديث، ولما فيه من المصالح، وما في ضده من المضار. كما أن ظاهر الحديث، التسوية بين الذكر والأنثى، لقوله لبشير: «سَوِّ بينهم» وهو قول الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه ابن عقيل والحارثي. وأما المشهور من مذهب الإمام أحمد، فهو أن يقسم بينهم على قدر إرثهم للذكر مثل حظ الأنثيين وهو اختيار شيح الإسلام ابن تيمية. فائدة: ذكر وجوِب العدل بين الأولاد في الهبة، وتحريم التخصيص أو التفضيل، ما لم يكن ثَمَ سبب موجب لذلك. فإن كان هناك ما يدعو إلى التفضيل أو التخصيص، فلا بأس، كأن يكون أحدهم مريضاً، أو أعمى، أو زمنا، أو كان ذا أسرة كبيرة أو طالب علم، ونحو ذلك من الأسباب، فلا بأس، بتفضيله لشيء من هذه المقاصد. وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد بقوله- في تخصيص بعضهم بالوقف-: لا بأس إذا كان لحاجة، وكرهه إذا كان على سبيل الأثرة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والحديث والآثار تدل على وجوب العدل... ثم هنا نوعان. 1- نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك، فالعدل فيه أن يعطى كل واحد ما يحتاج إليه، ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير. 2- ونوع تشترك حاجتهم إليه، من عطية، أو نفقة، أو تزويج. فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه. وينشأ من بينهما نوع ثالث، وهو أن ينفرد أحدهم بحاجة غير معتادة، مثل أن يقضى عن أحدهم دينا وجب عليه من أرش جناية، أو يعطى عنه المهر، أو يعطيه نفقة الزوجة، ونحو ذلك، ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر ا.هـ من الاختيارات. ما يؤخذ من الأحاديث: 1- وجوب العدل بين الأولاد، وتحريم التفضيل أو التخصيص. ذكرهم وأنثاهم سواء. 2- أن ذلك من الجور والظلم، الذي لا تجوز فيه الشهادة تحملا وأداء. 3- وجوب رد الزائد أو إعطاء الآخرين، حتى يتساووا. 4- أن الأحكام التي تقع على خلاف الشرع تبطل، ولا تنفذ، ولا يعتبر عقدها الصوري، لأنه على خلاف المقتضى الشرعي. .باب هِبَة العمرى: الحديث الأول:عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُمَا قال: قَضَى النَّبي صلى الله عليه وسلم بالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. وفي لفظ: «مَنْ اعمِرَ عُمْرَى فَهِي لَهُ وَلِعَقبِهِ فإنَّهَا لِلَّذِي أعْطِيَها، لا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أعْطاهَا لأنَّهُ عَطَاءٌ وَقَعَتْ فِيهِ الموَارِيثُ». وقال جابر: إنَّمَا الْعُمْرَى التي أجَازَهَا رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم أنْ يَقُولَ: هِي لَكَ وَلِعَقِبِكَ. فَأمَّا إذا قَالَ: هِي لك مَا عِشتَ، فإنَّهَا تَرجِعُ إلَى صَاحِبهَا. في لفظ لمسلمِ: «امسِكُوا عَلَيْكُمْ أموَالَكمْ وَلا تُفْسِدُوهَا فَإنَّهُ مَنْ أعْمَرَ عُمْرَى فهِي لِلَّذِي اعْمِرَهَا حَيّاً وَمَيْتاً وَلِعَقِبِهِ». الغريب: العمرى: بضم العين المهملة، وسكون الميم، وألف مقصورة. مشتقة من العمر، وهو الحياة. سميت بذلك، لأنهم كانوا في الجاهلية يعطى الرجلُ الرجلَ الدار أو غيرها ويقول: أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك. أعمر: بضم أوله، وكسر الميم. مبنى للمجهول. المعنى الإجمالي: العمرى:- ومثلها الرقبى نوعان من الهبة، كانوا يتعاطونهما في الجاهلية، فكان الرجل يعطى الرجل الدار أو غيرها بقوله: أعمرتك إياها أو أعطيتكها عمرك أو عمري. فكانوا يرقبون موت الموهوب له، ليرجعوا في هبتهم. فأقر الشرع الهبة، وأبطل الشرط المعتاد لها، وهو الرجوع، لأن العائد في هبته، كالكلب، يقيئ ثم يعود في قيئه، ولذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له ولعقبه من بعده. ونبههم صلى الله عليه وسلم إلى حفظ أموالهم بظنهم عدم لزوم هذا الشرط وإباحة الرجوع فيها فقال: «أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي اعمِرَها، حياً وميتا، ولعقبها». هذا ما لم يصرح الواهب بأنها للموهوب له ما عاش فقط، فالمسلمون على شروطهم، ويكون حكمها، حكم العارية. لكن لا يرجع الواهب فيها ولا بعد وفاة الموهوب له، لأن الوفاء بالوعد واجب، والإخلاف من صفات المنافقين المحرمة. اختلاف العلماء: العمرى ثلاثة أنواع: 1- إما أن تؤبد كقوله: لك: لعقبك من بعدك. 2- أو تطلق كقوله: هي لك عمرك أو عمري. وجمهور العلماء على صحة هذين النوعين وتأبيدهما وهو مذهب بعض الحنابلة. 3- والنوع الثالث أن يشترط الواهب الرجوع فيها بعد موت أحدهما. فهل يصح الشرط أو يلغى وتكون مؤبدة أيضاً؟ ذهب إلى صحة الشرط، جماعة من العلماء، منهم الزهري، ومالك، وأبو ثور، وداود. وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام وغيره من الأصحاب، لحديث: «المسلمون على شروطهم». والمشهور من مذهب الإمام أحمد، إلغاء الشرط ولزوم الهبة وتأبيدها. وشرط الرجوع فيها المختلف في صحته، غير هبتها مدة الحياة فهذه لها حكم العارية بإجماع العلماء. ما يؤخذ من الحديث: 1- صحة هبة العمرى وأنها من منح الجاهلية، التي أقرها الإسلام وهذبها، بمنع الرجوع فيها، لما في الرجوع من الدناءة والبشاعة. 2- أنها تكون للموهوب له ولعقبه، سواء أكانت مؤبدة أم مطلقة. أما إذا شرط الواهب الرجوع فيها، فقد تقدم الخلاف في ذلك بين العلماء. 3- أما إذا كانت الهبة لمدة الحياة فقط، بأن قال: هي لك ما دمت حيا، أو ما عشت، فهذه لها حكم العارية. 4- إن الشروط الفاسدة غير لازمة في العقد، ولو ظنها العاقد لازمة نافعة له. لكن. قال الفقهاء: ويثبت الخيار في إمضاء البيع أورده لمشتر ظن ما ليس له ضمن عقده. .باب اللُّقَطَة: اللُّقَطَة:- بضم اللام وفتح القاف على المشهور. وهي المال الضائع من ربِّه يلتقطه غيره. وَالمُلْتَقَطُ على ثلاثة أقسام:-1- فقسم تافِه لا تتبعه همة أوساط الناس، كالسَّوط، والرغيف ونحوهما، فهذا يملك بالالتقاط ولا يلزم تعريفه. 2- والثاني، ما لا يجوز التقاطه، وهى الأشياء التي تمنع نفسها من صغار السباع لِعَدْوهاَ، كالظباء، أو بقوتها وتحملها، كالإبل، والبقر ونحو ذلك. فهذا يحرم التقاطه. 3- والنوع الثالث ما عدا ذلك، فهذا هو الذي يشرع التقاطه بقصد الحفظ لصاحبه وفيه الأحكام الآتية:- الحديث الأول: عَنْ زَيْد بنِ خَالِدٍ الجُهَنيّ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: «سُئل رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلًمَ فَيْ لقَطَةِ الذَهَب أوِ الورِقِ، فقال اعْرِفْ وِكَاءها وَعِفَاصَهَا ثُمً عَرفها سَنةً، فإن لَم تُعْرَف فَاسْتنْفقهَا وَلتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإن جَاءَ طَالبُهَا يَوْماً منَ الدهْرِ فَأدهَا إلَيهِ. وَسألهُ عَنْ ضَالةِ الإبِلِ فَقَالَ: مَالَكَ وَلَها؟ دَعْهَا، فِإن مَعَهَا حِذَاءها وَسِقَاءها، تَرِدُ المَاءَ وَتَأكُلُ الشجَرَ، حَتى يَجدَهَا رَبُهَا. وَسَألهُ عَنِ الشاة فَقَالَ: خُذها، فَإنَما هِيَ لَكَ، أوْ لأخِيكَ أوْ لِلذئبِ». الغريب: وِكاءها: بكسر الواو ممدود الوكاء ما يربط به الشيء. عفاصها: بكسر العين المهملة، ففاء، وبعد الألف صاد مهملة. هو وعاؤها. حِذَاءها: بكسر الحاء المهملة، فذال معجمة، هو خفها، لمتانته وصلابته. سقاءها: بكسر السين، هو جوفها الذي حمل كثيراً من الماء والطعام. ربها: هو صاحبها الذي ضاعت منه. المعنى الإجمالي: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم المال الضال عن ربه، من الذهب، والفضة، والإبل، والغنم. فبين له صلى الله عليه وسلم حكم هذه الأشياء لتكون مثالا لأشباهها، من الأموال الضائعة، فتأخذ حكمها. فقال عن الذهب والفضة: اعرف وكاءها الذي شدت به، ووعاءها الذي جعلت فيه، لتميزها من بين مالك، ولتخبر بعلمك بها من ادعاها. فإن طابق وصفه صفاتها، أعطيه إياها، وإلا تبين لك عدم صحة دعواه. وأمره أن يعرفها سنة كاملة بعد التقاطه إياها. ويكون التعريف في مجامع الناس كالأسواق، وأبواب المساجد. والمجمعات العامة، وفي مكان التقاطها. ثم أباح له- بعد تعريفها سنة، وعدم العثور على صاحبا- أن يستنفقها، فإذا جاء صاحبها في أي يوم من أيام الدهر، أداها إليه. وأما ضالة الإبل ونحوها، مما يمتنع بنفسه، فنهاه عن التقاطها. لأنها ليست بحاجة إلى الحفظ، فلها من طبيعتها حافظ، لأن فيها القوة على صيانة نفسها من صغار السباع، ولها من أخفافها ما تقطع به المفاوز، ومن عنقها ما تتناول به الشجر والماء، ومن جوفها ما تحمل به الغذاء، فهي حافظة نفسها حتى يجدها ربها الذي سيبحث عنها في مكان ضياعها. وأما ضالة الغنم ونحوها من صغار الحيوان، فأمره أن يأخذها حفظا لها من الهلاك وافتراس السباع، وبعد أخذها يأتي صاحبها فيأخذها، أو يمضي عليها حول التعريف فتكون لواجدها. ما يستفاد من الحديث: 1- أن من وجد مالا ضائعاْ عن ربه لا يمتنع من حفظ نفسه، استحب له أخذه بقصد الحفظ والصيانة عن الهلاك، والاستحباب هو أرجح الأقوال. 2- أن يعرف الواجد وكاءها ووعاءها وجنسها ليميزها عن ماله وليعرف صفاتها فيختبر من ادعى ضياعها منه، فذلك من تمام حفظها وأدائها إلى ربها. 3- أن يعرفها سنة في مجامع الناس كأبواب المساجد والمحافل والأسواق، وفي مكان وجدانها، لأنه مكان بحث صاحبها، ويبلغ الجهات المسؤولة عنها، كدوائر الشرطة. وفي زمننا يكون نشدانها في الصحف والإذاعات والتلفاز، إذا كانت لقطة خطيرة. 4- إن لم تعرف في مدة العام، جاز له إنفاقها وبقى مستعدا لإعطاء صاحبها عوضها مثلها، إن كانت مثلية، أو قيمتها إن كانت متقومة. 5- فإن مضى عليها الحول ولم تعرف، ملكها ملتقطها ملكا قهريا من غير اختيار كالإرث وإذا جاء صاحبها بعد الحول فله عوضها، أو هي بعينها إن كانت موجودة. 6- إن جاء صاحبها ولو بعد أمد طويل ووصفها. دفعت إليه. ويكفى وصفها بينة على أنها له، فلا يحتاج إلى شهود ولا إلى يمين، لأن وصفها هو بينتها، فبينة كل شيء بحسبه، فإن البينة ما أبان الحق وأظهره، ووصفها كاف في ذلك. وهذه قاعدة عامة في كل الأحوال، التي يدعيها أحد ولا يكون له فيها منازع، فيكتفي بوصفه إياها. 7- أما ضالة الإبل ونحوها مما يمتنع بقوته أو بعَدْوه أو بطيرانه، فلا يجوز التقاطها، لأن لها من طبيعتها وتركيب الله إياها، ما يحفظها ويمنعها. لكن إن وجدت في مهلكة رُدتْ بقصد الإنقاذ، لا التقاط. 8- أما الشاة، فالأحسن- بعد أخذها- أن يعمل فيها الأصلح من أكلها مقدرا قيمتها، أو بيعها وحفظ ثمنها، أو إبقائها مدة التعريف. وتركها بدون أخذها، تعريض لها للهلاك. فإن جاء صاحبها، رجع بها أو بقيمها أو ثمنها، وإن لم يأت، فهي لمن وجدها. .كتاب الوَصَايَا: الوصايا: جمع وصية مثل هدايا: جع هدية. قال الأزهري: مأخوذة من وصيتُ الشيء أصِيه إذا وصلته. سميت وصية لأن الموصي وصل ما كان له في حياته بما كان بعد مماته. ويقال: وصّى- بالتشديد- وأوصى يوصى أيضاً. وهي- لغة- الأمر قال الله تعالى: {وَوَصّى بها إبراهِيمُ بَنيهِ وَيَعْقُوبُ}.وشرعاً: عهد خاص بالتصرف بالمال، أو التبرع به بعد الموت. وهى مشروعة بالكتاب، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكم إذَا حَضَرَ أحَدَكُم المَوتُ إن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيّة}. ومشروعة بالسنة لهذه الأحاديث الآتية وإجماع المسلمين في جميع الأعصار والأمصار. وهى من محاسن الإسلام، إذ جعل لصاحب المال جزءاً من ماله، يعود عليه ثوابه وأجره بعد موته. وهي من لطف الله بعباده ورحمته بهم، حينما أباح لهم من أموالهم عند خروجهم من الدنيا أن يتزودوا لآخرتهم بنصيب منها. لهذا جاء في بعض الأحاديث القُدسيةِ قول الله تعالى: «يا ابن آدم جعلت لك نصيباً من مالك حين أخذت بكظمك لأطهِّرَكَ به وأزكِّيَكَ». الحديث الأول: عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضي الله عَنْهُمَا: أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حَق امرئ مسلم لَهُ شَيء يُوصي بهِ، يَبِيتُ لَيلَة أو لَيلَتَين إلا وَوَصيتهُ مَكْتُوبَة عنده». زاد مسلم قال ابن عمر: فَوَ الله مَا مَرتْ عَلَي لَيلَة مُنْذُ سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُولُ ذلِكَ إلا وعندي وَصِيتي. المعنى الإجمالي: يحض الني صلى الله عليه وسلم أمته على المبادرة إلى فعل الخير واغتنام الفرصة قبل فواتها، فأفادهم أنه ليس من الحق والصواب والحزم لمن عنده شيء يريد أن يوصي به ويبينه، أن يهمله حتى تمضى عليه المدة الطويلة. بل يبادر إلى كتابته وبيانه، وغاية ما يسامح فيه الليلة والليلتان. فإن المبادرة إلى ذلك، من المسابقة إلى الخيرات والأخذ بالحزم. فإن الإنسان لا يدري ما مقامه في هذه الحياة؟ كما أن فيه امتثال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. ولذا فإن ابن عمر رضي الله عنهما- بعد أن سمع هذه النصيحة النبوية- كان يتعاهد وصيته كل ليلة، امتثالا لأمر الشارع، وبيانا للحق، وتأهبا للنقلة إلى دار القرار. ما يستفاد من الحديث: 1- مشروعية الوصية وعليها إجماع العلماء، وعمدة الإجماع، الكتاب والسنة. 2- أنها قسمان: أ- مستحب. ب- وواجب. فالمستحب: ما كان للتطوعات والقربات. والواجب في الحقوق الواجبة، التي ليس بينة تثبتها بعد وفاته لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. وذكر ابن دقيق العيد أن هذا الحديث محمول على النوع الواجب. 3- مشروعية المبادرة إليها، بيانا لها، وامتثالا لأمر الشارع فيها، واستعداداً للموت. وتبصُّراً بها وبمصرفها، قبل أن يشغله عنها شاغل. 4- أن الكتابة المعروفة تكفى لإثبات الوصية والعمل بها، لأنه لم يذكر شهوداً لها. والخط إذا عرف، بينة ووثيقة قوية. 5- فضل ابن عمر رضي الله عنه، ومبادرته إلى فعل الخير، واتباع الشارع الحكيم. 6- قال ابن دقيق العيد: والترخيص في الليلتين والثلاث دفع للحرج والعسر. الحديث الثاني: عَنْ سَعْدِ بنِ أبي وَقاص رَضي الله عَنْهُ قَال جَاءَني رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُني- عَامَ حَجةِ الوَدَاع منْ وَجَع اشْتَد بي. فَقُلْتُْ: يَا رسول الله، قَدْ بَلَغَ بي مِن الوَجَعِ مَا تَرى، وَأنَا ذو مال، وَلا يَرِثُني إلا ابنة، أفَأتَصَدق بثُلُثَي مالي؟ قَالَ: «لا» قلْتُ: فَالشطْرُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «لا» قُلْتُ: فَالثلُثُ؟. قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثلثُ كَثِير. إنَكَ أنْ تَذَرَْ وَرَثَتَكَ أغْنِيَاءٍ خَير مِنْ أن تَترَكهُم عَالَةً يَتَكَففُونَ النَّاسَ، وَإنكَ لن تُنْفِقَ نَفَقَة تَبتَغِي بهَا وَجْهَ الله إلا أجرت بِهَا، حَتى مَا تَجْعَلُ في فيّ امْرَأتِكَ». قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رسول الله اخَلفُ بَعْدَ أصْحَابي؟ قَالَ: «إنَكَ لَئنْ تخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلا تَبْتَغِي بِهِ وجْهَ الله إلا ازْدَدتَ بِهِ درَجَة وَرفعَةً، وَلَعَلًكَ أن تُخَلَّفَ حتَى ينتَفِعَ بِكَ أقْوَام وَيُضَر بكَ آخَرُونَ. اللهُم أمْض لأصْحَابي هِجْرَتَهُمُ، وَلا تَرُدهُم عَلَى أعقابهم لكِنَّ البَائسَ سَعدُ بنُ خَوْلَةَ» يَرثي لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ مَاتَ بِمَكةَ. الغريب: الشطر: يجوز جره بالعطف على ثلثي وبين الزمخشري أنه يجوز نصبه على تقدير فعل محذوف هو عامل نصبه أي أعين ويطلق على معان، منها النصف وهو المراد هنا. كثير: بالثاء المثلثة في أكثر روايات الحديث وهو المحفوظ. أن تذر: بفتح الهمزة على التعليل، وبكسرها على الشرطية. قال النووي: هما صحيحان، ورد بعضهم الكسر لعدم صلاحية خير جواباً، إذ لا فاء فيها. وابن مالك يرى أن خير هي الجواب، والفاء مقدرة. والمعنى فهو خير. عالة: جمع عائل والعالة الفقراء من عال يعيل إذا افتقر. والعيلة الفقر. يتكففون الناس: مأخوذ من الكف اليد أي يسألون الناس بأكفهم. سعد ابن خولة: نسب إلى أمه وهو قريشي عامري من جماعة أبي عبيدة ابن الجراح. وقيل: فارسي من اليمن حالف بني عامر. بدري من فضلاء الصحابة توفى بمكة في حجة الوداع، كانت تحته سبيعة بنت الحارث، فتوفي عنها وهي حامل. وقد رثى له النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توفي في البلد التي هاجر منها، فدعا صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يتم لهم هجرتهم. المعنى الإجمالي: مرض سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في حجة الوداع مرضاً شديداً خاف من شدته الموت. فعاده النبي صلى الله عليه وسلم كعادته في تفقد أصحابه ومواساته إياهم. فذكر سعد للنبي صلى الله عليه وسلم من الدواعي، ما يعتقد أنها تسوغ له التصدق بالكثير من ماله. |